خطاب رئيس الجمهورية في افتتاح المؤتمر بشأن ضحايا العنف المستند إلى العرق والدين في الشرق الأوسط (2015.09.08)

حصة

سيداتي وسادتي،
أحيي جميع البلدان والمنظمات الدولية والإقليمية المشاركة في هذا المؤتمر الذي رغبت فرنسا والأردن في تنظيمه.
إن الشرق الأوسط بكل تعدديته ممثل هنا، حكومات وسلطات دينية وأبناء الجماعات من جميع أنحاء المنطقة.

إن العالم معبّأ من أجل دعم ضحايا جميع أوجه العنف المستند إلى العرق والدين.

ويتمثل الهدف من هذا المؤتمر في إنذار العالم مرة أخرى بالوضع المأساوي الذي يعاني منه السكان الذين تلاحقهم مجموعات إرهابية مثل تنظيم داعش وتطردهم. كما يجب أن يطرح سبلا عملية لتلبية الاحتياجات الملحة لهؤلاء السكان.

لقد زرت بغداد في أيلول/سبتمبر 2014 حيث التقيت بالعديد من الشخصيات ومنهم المسؤولين عن الطائفة المسيحية، واطلعت على ضائقة أبنائها وقصص الفظائع التي وقعوا ضحيتها. إنها المرة الأولى، منذ قرون التي لا يقام فيها أي قدّاس بمناسبة عيد الميلاد في العام الماضي في الموصل، هذه المدينة الواقعة على أطلال نينوى التوراتية، التي كانت إحدى العواصم الإقليمية للمسيحية لعهد طويل.

كما أشعر بنفس الأسى عندما أفكر في اليزيديين الذين أبعدوا عن قراهم في ظروف تتسم بأقصى درجات العنف، والأطفال الذين خطفوا من عائلاتهم، والرجال الذين قتلوا بوحشية، والنساء اللواتي تعرضن لأعمال العنف الجنسي البغيضة. وأحيي السيدة جنان الحاضرة بينكم، التي فرّت من الرق الذي يمارسه تنظيم داعش ونشرت للتو شهادة تهتز لها النفوس.

وأفكر أيضا في الشبك والتركمان وجميع الأقليات التي يطاردها تنظيم داعش من أجل ملاحقتها والقضاء عليها.

وأفكر في المسلمين أيضا لأنني لا أنسى أنهم الضحايا الرئيسين لتنظيم داعش.

إن هذا التنظيم الإرهابي يدّمر كل شيء. يدّمر البشر والحجر. فهو يدمّر الآثار التراثية التي تعود إلى آلاف السنين في هذه المنطقة، التي تعتبر مهد البشرية. ويقطع رأس خالد أسعد، هذا العالم ابن الاثنين والثمانين عاما الذي كرّس حياته لصون موقع تدمر.

يتمثل هدف تنظيم داعش في بسط الرعب. بسط الرعب لدى الأقليات من أجل طردها من الشرق الأوسط حيث تعيش منذ الأزل. وبسط الرعب لدى الأغلبية المسلمة التي يجري تكفير كل من لا يتبع فيها تنظيم داعش. إن هدف تنظيم داعش، وهو نفس هدف بشّار الأسد على فكرة، هو إبقاء السكان أسرى لخوفهم ومنع تحديد أي تعريف سياسي للعيش المشترك والمواطنة. إن الهدف هو إنكار النهضة، هذه الفترة الرائعة التي برز فيها عالم عربي متعدد وثري بماضيه ويحترم الاختلاف ويتطلع إلى المستقبل.

إن التصرف لمواجهة هذه الجرائم الدولية هو ضرورة ملّحة.

على الإجابة أن تصدر عن دول المنطقة ذاتها في المقام الأول. هنالك العديد من الأمثلة وسأذكر بعضا منها، فإنني أشيد بالمبادرات التي اتخذها الأردن من أجل تعزيز التنوع والحوار بين الأديان- ولا سيّما "رسالة عمّان" التي تعتبر رسالة سلام وتسامح للعالم الإسلامي وسائر أنحاء العالم. وأشكر مصر التي تحرص على أن يعيش جميع المصريين، سواء أكانوا مسلمين أم أقباطا، وأن يجري التعامل معهم بوصفهم مواطنين مصريين بكل معنى الكلمة. كما أفكر بالسلطات العراقية التي تستهل طريق المصالحة الوطنية، من أجل إرساء سيادة القانون في دولة تحترم جميع المواطنين مهما كانت معتقداتهم أو انتماؤهم.

إننا جميعا معنيون بالأزمات في الشرق الأوسط. فالطفل أيلان، الذي هز موته مشاعر العالم أجمع، كان قادما من كوباني في سورية مع عائلته هربا من تنظيم داعش. ولا يزال العديد من الأشخاص يلاقون حتفهم كل يوم. ولا تزال العديد من العائلات تفرّ. فهنالك ما لا يقل عن اثني عشر مليون سوري هجروا ديارهم ويعتمدون على المساعدة الإنسانية من أجل البقاء. وأربعة ملايين منهم أصبحوا لاجئين في البلدان المجاورة. وجميعهم أعينهم مصوبة نحو أوروبا.

فواجب المجتمع الدولي الأول هو المساعدة في تسوية النزاعات التي تزعزع الشرق الأوسط، وتلقي بالرجال والنساء والأطفال في "طرق اليأس". هذه هي غاية العمل العسكري الذي استهله التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، الذي تشارك فرنسا فيه. وهي الغاية من البيان الذي اعتمده مجلس الأمن في آب/أغسطس الماضي، الذي يجب أن يشق الطريق لعملية الانتقال السياسي الحقيقية في سورية. وأخيرا، هذا هو العمل الذي على كل بلد من بلداننا أن يقوم به من أجل محاربة غسل أدمغة مواطنينا ومنع تجنيدهم، وتفكيك الفصائل الجهادية، ومعاقبة كل من يرتبط بها من قريب أو بعيد.

إن حالة الطوارئ هي إنسانية أيضا. وأود هنا أن أنوّه بروح التضامن التي أبدتها الأردن وتركيا ولبنان وإقليم كردستان العراق المستقل، الذي يستضيف العدد الأكبر من اللاجئين. كما أشيد بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرامج الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، لالتزامها وتعبئتها الرائعين. وأتقدم بالشكر لجميع النوّاب - الذين أحيي حضورهم - وسلطات الحكم المحلي، والجمعيات ذات الطابع الإنساني أو الديني، والمتطوعين الذين يحشدون طاقاتهم في فرنسا من أجل مساندة السكان المعرّضين للخطر، واستضافة الأشخاص الذين يكابدون آلام المنفى.

علينا تكثيف جهودنا فيما يخص الإغاثة الإنسانية، وإيصال الوسائل والمواد الضرورية لتأمين المناطق المحرّرة، واستضافة النازحين واللاجئين عند الضرورة. وستؤدي فرنسا دورها الكامل ضمن احترام كونها بلد لجوء، ووفاء لتاريخها في الشرق الأوسط.

وقد وضعنا تدابير خاصة منذ ظهور تنظيم داعش في العراق في عام 2011 لاستقبال السوريين والعراقيين المعرّضين للخطر عبر منح التأشيرات للجوء. وكما أعلنت في الأمس، ستستقبل فرنسا أربعة وعشرين ألف لاجئ إضافي في خلال السنوات المقبلة. وقد اتخذنا مبادرة، بالاتفاق مع ألمانيا، من أجل تعزيز سياسة اللجوء في أوروبا، التي يجب أن يكون لديها آلية دائمة وإلزامية من أجل توزيع اللاجئين بصورة منصفة بين الدول الأعضاء.

علينا أيضا أن نتخذ جميع المبادرات الضرورية من أجل تحسين حماية التراث الثقافي لمختلف الجماعات العرقية والدينية في المنطقة. وقد عهدت إلى رئيس ومدير متحف اللوفر السيد جان-لوك مارتينيز بمهمة تتعلق بسبل زيادة كفاءة الصكوك القائمة لحماية التراث المعرّض للخطر. وإن اليونسكو محقّة إذ تقول، على لسان مديرتها العامة السيدة إيرينا بوكوفا، إن هذه الجرائم لن تنجح في محو الحضارات العريقة لذاكرة العالم. وستقدم فرنسا اقتراحات في المؤتمر العام المقبل لليونسكو من أجل تحسين حماية التراث الثقافي المعرّض للخطر.

يجب محاكمة المسؤولين عن هذه الفظائع أمام العدالة، سواء العدالة الدولية أو الوطنية. وقد أنشئت المحكمة الجنائية الدولية من أجل محاكمة الجرائم الأخطر. إن الجرائم التي يرتكبها تنظيم داعش ضد الجماعات المختلفة في سورية والعراق قد تعتبر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. لذا أدعو جميع الدول المعنية في المنطقة إلى الانضمام إلى نظام روما الأساسي لكي تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من محاكمة مرتكبي هذه الجرائم التي تهز الضمير الإنساني. كما ترغب فرنسا في أن يؤدي مجلس الأمن دوره ويحيل هذه الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وأخيرا، أود أن أشيد بالمبادرات التي اتخذتها السلطات الدينية وممثلو مختلف الجماعات من أجل تعزيز التعايش السلمي والوئام. والعديد منهم حاضرون هنا اليوم وإنني أشكرهم على هذا الحضور.

إذ تشارك البلدان والمنظمات والشخصيات الحاضرة هنا في هذا المؤتمر فهي تعبّر عن تضامنها مع ضحايا الملاحقات. كما أنها تعبّر عن عزمها المشترك على التعبئة والعمل في نفس الاتجاه من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط.