زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية إلى الجزائر العاصمة في الجزائر - تصريح رئيس الجمهورية الفرنسية (26 آب/أغسطس 2022)

حصة

لا يُعتدُّ إلا بما أُدلي به

أشكركم فخامة رئيس الجمهورية،
السيدات والسادة الوزراء،
سعادة السفراء،
سيداتي وسادتي،

تسرنا وتشرفنا استضافتكم لنا في الجزائر العاصمة، خلال زيارتنا اليوم وغدًا، قبل توجهنا إلى وهران في إطار زيارة العمل والصداقة التي نجريها إلى الجزائر.

واسمحوا لي فخامة الرئيس أن أستهل كلمتي بتقديم تعازي الشعب الفرنسي وتعازي فرنسا إلى الشعب الجزائري وإليكم على إثر وفاة عدد من الأشخاص في الأسبوعين المنصرمين من جراء الحرائق التي تصديتهم لها. وأدرك أنكم أخمدتموها بكل شجاعة ومثابرة، الحال هذا العام مثل العام المنصرم. وفرض علينا التصدي لحرائق كذلك مع أنّها لم تفضِ إلى الخسائر البشرية ذاتها، ولكن أعتقد أننا نقف معًا وجنبًا إلى جنب في مواجهة هذا التحدي، وتدركون أنّه يمكنكم التعويل على تضامن فرنسا معكم، وكنت أرغب في أن أبدأ بتقديم هذه التعازي.

قلتم، يا فخامة الرئيس، فحوى الكلام بعبارات أصبتم في اختيارها فسأسعى إلى الإضافة إليها في هامش ما صرحتم به إلى أصدقائنا الصحافيين. ويجمعنا ماضٍ مشترك ومعقّد وأليم، وهو ماضٍ حجب عنا في بعض الأحيان القدرة على التطلع إلى المستقبل. وأعتقد أنّه يمكنني القول أنّ رغبتنا، والعمل الذي نضطلع به منذ خمسة أعوام في فرنسا، والحوارات المستمرة التي عقدناها، كل ذلك يعزز فكرة أننا نعيش، يبدو لي، فترة فريدة من نوعها، فترة أتمنى أنّها ستتيح لنا مواجهة هذا الماضي بكل تواضع، ورغبة في إجلاء الحقيقة والذاكرة والتاريخ. ويستحيل أن نتخلّص من هذا الماضي، الذي نسجته حيوات وتاريخنا، لكن يمكننا أن نجعل منه ماضٍ مشتركًا وليس عائق لتقدمنا. واسترسلنا في الحديث عن هذا الماضي مجددًا، وطلبنا من وزرائنا وفرقنا العمل على إنهاء كتابة ما قمنا به كتابةً دقيقةً بحلول نهاية هذه الزيارة. ولكن يمكنني القول هنا أننا قررنا معًا بالفعل، تكليف لجنة مشتركة من المؤرخين، بفتح محفوظاتنا وإتاحة النظر في كل هذه الفترة التاريخية المفصلية بالنسبة لنا، من بداية حقبة الاستعمار إلى حرب التحرير، بلا محرمات، وبرغبة في الاضطلاع بعمل حر، وتاريخي، والاطّلاع على كامل محفوظاتنا واستعداد الجانبين بعدها للاعتراف بالأمور. وأعتقد أنّه عنصر يكتسي أهميةً شديدةً.

ولأنّ ما نرغب تحقيقه معًا، هو بناء المستقبل. لم نختر مجريات الماضي، بل ورثنا الماضي بأكمله مثلما حدث. ويجب النظر فيه والاعتراف به. ولكن تتمثل المسؤولية التي تقع علينا في بناء مستقبلنا من أجلنا ومن أجل الشباب، وهو هدف من الأهداف الجوهرية لهذه الزيارة ولهذه المحادثات ولما أود أن نسعى إلى تحقيقه معًا، ليس في بضعة الأيام المقبلة فحسب، بل في السنوات المقبلة كذلك. ويقتضي بناء المستقبل أن نختار مواجهة تحدياتنا معًا وبذل كل ما يتيسر لنا من جهود بغية إيجاد حلول لها معًا، والسعي إلى مساعدة الشباب الجزائري والشباب الفرنسي في تحقيق النجاح، فشبابنا يحقق النجاح، كل في بلده، ومن ضفتي البحر الأبيض المتوسط عندما يقرر احتضان الضفتين، شبابنا الذي قد يحمل جنسية البلدين أو الذي ورث هذا التاريخ، بصرف النظر عن صيغته.

واتخذنا قرارات بشأن مسألة التنقّل والحركة أيضًا، وسنعمل معًا على إيجاد حلول للقضايا الأمنية التي تتسم بحساسية أكثر، ولكن التي لا ينبغي أن تعيق تطور فنانينا ورياضيينا ورياديي أعمالنا وأكاديميينا وعلمائنا وأعضاء جمعياتنا ومسؤولينا السياسيين وتنقلّهم على النحو الذي يختارونه، وهو ما يتيح لضفتي البحر الأبيض المتوسط إرساء المزيد من المشاريع المشتركة. وسأسعى خلال هذين اليومين المقبلين إلى تطوير معكم هذا العهد الجديد الذي نقطعه من أجل شبابنا، والعهد الذي أود أن نتمكن من استهلاله في قضايا مجالات الاقتصاد والابتكار والبحوث والثقافة والرياضة، وبين شبابنا ومواهبنا ومنها المواهب التي نتشاركها. وستندرج عدة عناصر في صميم أعمالنا خلال هذه العملية. وتتمثل أولًا إذن في توضيح الإطار الذي يجري فيه التنقّل في البلدين وتبسيطه وأعتقد أننا حددنا معالم جلية في هذا الصدد.

وينبغي إحراز تقدم في عملنا على صناعتنا وبحوثنا ومحروقاتنا ومعادننا النادرة. وينبغي إحراز تقدم أيضًا في مواضيع الابتكار التي يتطلع شبابنا إلى بلوغ الصدارة فيها، وهي مواضيع نرغب في الارتقاء فيها بوتيرة أسرع وبزخم أشد. ويشمل مجال الابتكار مواضيع عدة سأذكر منها موضوعين على سبيل المثال لا الحصر. ويتمثل الأول في المجال الرقمي، والثاني في الإبداع السينمائي. وأتطرق إلى المجال الرقمي لأنّ شبابنا يتطلع إلى العمل فيه، إذ تزخر الجزائر وفرنسا بالمواهب، ويتمتع عدد كبير من حاملي جنسية البلدين بهذه المواهب. وأود، لهذا السبب تمامًا، أن نتمكن من تطوير معًا برنامج حاضنة شركات ناشئة، يحظى بدعم القطاع الخاص، وربطها بحاضنات أخرى، ومد حلقات الوصل لنظامنا البيئي الفرنسي الجزائري الواعد الملائم لريادة الأعمال، وإتاحة إمكانية إجراء دورات تدريب هنا، وتطويرها، وتسهيل التبادل والإبداع المشترك بين بلدينا، وفي جميع أنحاء المنطقة أيضًا. وتدعم فرنسا هذه الحركية في هذا الصدد، من خلال إنشاء صندوق دعم محدد بقيمة 100 مليون يورو، وهو ما أعلنتُ عنه منذ بضعة أشهر في منتدى عوالم المتوسط الذي عقد في مرسيليا. وأود أن يتمكن هذا الصندوق من مواكبة مغتربينا وحاملي جنسية بلدينا بصورة خاصة في المشاريع التي سيضطلعون بها في هذا القطاع والتمكّن من إحراز تقدّم فيه بوتيرة أسرع وبزخم أشد.

ويتمثل الموضوع الثاني في الإبداع السينمائي، إذ تندرج الثقافة والفنون في صميم مخيلاتنا. ونحن نحتفي بها في بلدينا، ونتشارك المواهب في هذا المجال أيضًا. ويكاد يكون قد مضى عام بالضبط على إعلاني من مرسيليا عن رغبتي في افتتاح استديوهات وإنشاء أماكن جديدة للإبداع السينمائي المعاصر، في عالم تشتد فيه المنافسة في هذا المجال. وأود أن نتمكن، مثلما ناقشنا معًا، من البحث في وضع مشاريع مشتركة وبرامج مشتركة، وفي مساعدة الجزائر أيضًا في وضع برامج لا تقتصر على الإبداع السينمائي وتطوير الاستوديوهات فحسب، بل تشمل توفير دورات التدريب في هذه الحرف كافة. وما يدفعني إلى ذلك هو انّ المستقبل لا يُبنى إلا من خلال سرده. ولا نرغب في أن يسرد غيرنا مستقبلنا، ولا أن يرويه أولئك الراغبين في إعادة النظر في الماضي وتحويله وتغييره أحيانًا، ولا أولئك الراغبين في بناء مستقبل ظلامي ويؤلفون القصص والذين سعينا إلى طردها من بلدينا وما نزال. ويؤدي الإبداع هذا الدور، وهو سيندرج في صميم مغامرتنا.
وتمثل الرياضة، بطبيعة الحال، جوهر الشراكات التي نرغب في إقامتها وأود أن أهنئكم على النجاح الذي حققتوه في دورة الألعاب المتوسطية التي عقدت في مدينة وهران، وكان قد حضرها وزيرنا معكم قبل بضعة أسابيع، وهو نجاح أكد، إذا لزم الأمر، المكانة المتقدمة التي تحتلها الرياضة في بلدكم. وتمثل الرياضة شغف نتشاركه. وقد تجرفنا العاطفة من الجهتين في بعض الأحيان عندما تكون فرقنا في الملاعب، ونرغب في إنشاء أوجه تعاون جديدة في هذا المجال أيضًا. وستتسنى لنا فرصة التطرق إلى هذا الموضوع في وهران مع الرياضيين الشباب الذين سألتقي بهم تمهيدًا لدورة الألعاب الأولمبية، وأود أن نتمكن أن نحرز تقدمًا أيضًا في مجال دورات التدريب والمعدات والتطوير ونصب طموح مشترك.

وينبغي أن تشمل هذه الشراكة الجديدة مشاريع تعاون في المجال الجامعي والعلمي أيضًا. وستتسنى لنا فرصة توقيع عقود تعاون يوم السبت مع معهد باستور والمركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، وهو تعاون يكتسي أهميةً جوهريةً بغية مواجهة تحديات المستقبل على غرار مكافحة الجوائح وتغيّر المناخ على حد سواء. وأود أن أشدد على هذه المسألة أيضًا، إذ أعتقد أنّه ينبغي أن تفضي هذه الشراكة الجديدة إلى وضع مبادرات مشتركة، على الصعيدين العلمي والدبلوماسي، لكي نعمل على جدول أعمال محدد من أجل مكافحة تغيّر المناخ وصون التنوّع البيولوجي لأن بلدينا ينعمان بمشاطرة البحر الأبيض المتوسط الذي يعد كنزًا، وإلى رغبة أعربت دبلوماسيتنا عنها بالفعل وتتمثل في تعزيز حماية هذا الحيز المشترك، وإشراك شبابنا فيه أيضًا، واستهلال البحوث والتمكن من تطوير التعاون اللازم في هذا المجال والحث على ذلك.

وذكرت آنفًا بعض المحاور التي كنت أود أن أسلّط الضوء عليها، وسيزداد عددها بطبيعة الحال، غير أنّ التعاون الثنائي وهذه الشراكة الجديدة بشأن المستقبل التي يمكننا إقامتها لأننا قررنا أيضًا أن نواجه ماضينا يدًا بيد، وواجب إجلاء الحقيقة ورغبة مشتركة في إنشاء هذه اللجنة. وتناول فخامة الرئيس، وسأسرع في اختتام كلمتي، مشاريع أخرى والاستقرار في المنطقة وتطرق إلى القضايا الدولية. إلا أنّ الأزمات والتوترات مستشرية للأسف في المنطقة بالفعل. وتندرج منطقة الساحل ومالي، بطبيعة الحال، في أولويات بلدينا، وأحرص على الإشادة، عزيزي الرئيس، بانخراطكم في متابعة الامتثال لاتفاق السلم والمصالحة في مالي الذي أبرم هنا في الجزائر العاصمة. ويجب أن تتيح هذه الزيارة فرصة تعزيز تعاوننا في هذا الصدد وفي مجال مكافحة الإرهاب، ولا سيّما في إطار التعاون الإقليمي.

وسأختتم كلمتي بالتطرق إلى أوكرانيا التي تناولناها والتي سنواصل التباحث بشأنها مع فخامة الرئيس عبد المجيد تبون، إذ انتُهكت سيادة أوكرانيا منها، واحتلت قوة امبريالية أراضيها وتشن عليها حربًا عدوانية. وأدرك درجة حرص الجزائر على احترام الدول وسيادتها، لذا يجب أن يمثل إنهاء الحرب في أوكرانيا قضيةً ندافع عنها على نحو مشترك. وأدّت هذه الأزمة والأزمات التي نتجت عن الحرب التي شنتها روسيا، من أزمات إنسانية أو دبلوماسية أو غذائية أو في مجال الطاقة، إلى زعزعة استقرار العالم بأكمله زعزعةً شديدةً، ولا سيّما القارة الأفريقية، وتُعرّض عدة بلدان لخطر مواجهة شح في عدة مجالات، وأعتقد أننا نضطلع بمسؤولية إيجاد حل لها معًا أيضًا.

واستعرضت أمامكم بعض المحاور التي كنت أرغب في الإسهاب فيها، ولكن بما يتماشى مع ما ذكره فخامة الرئيس، ولا سيّما أننا سنستمر في التباحث والعمل معًا ووزراؤنا أيضًا. ومع أنّ الزيارة ستتواصل غدًا وبعد غد، فأود أن أعتبر هذه اللحظة وما قررنا بحثه، صفحةً جديدةً تستهل اليوم في التعاون الثنائي الذي لا غنى عنه ليس لبلدينا وشبابنا فحسب، بل للمنطقة والقارة برمتها أيضًا. وأود لذلك أن أشكركم فخامة الرئيس على صداقتكم وصراحتكم وطموحكم الذي نتشاركه. وشكراً جزيلاً.