خطاب رئيس الجمهورية الفرنسية السيد إيمانويل ماكرون بمناسبة الاحتفال بمئوية تشييد مسجد باريس الكبير (19 تشرين الأول/أكتوبر 2022)

حصة

سيدي رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي، وسيدي الوزير، وسيداتي وسادتي النواب، وسيدي عميد مسجد باريس الكبير، وسيدي محافظ المنطقة، وسيداتي وسادتي رؤساء ورئيسات البلديات، وسادتي الأئمة، وسيدي حاخام فرنسا الكبير، وسادتي رؤساء الأساقفة، وسيداتي وسادتي ممثلي الشعب المنتخبين، وسيداتي وسادتي السفراء، وسيدتي الأمينة العامة الدائمة للأكاديمية الفرنسية، وسادتي المحافظين، وسادتي عمداء الأكاديمية الفرنسية، وسيداتي وسادتي الممثلين الدينيين والرابطات الدينية،
وسيداتي وسادتي،
أود أن أعرب لكم عن تأثري بحضوري إلى مسجد باريس الكبير الذي قضت مئة عام تمامًا على أول حجر وضع لتشييده في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1922.

وعادت بنا الصور والمقالات والمحفوظات في المعرض إلى قرن مضى وإلى نشأة هذه المؤسسة. وأشيد بالعمل المتميز الذي اضطلعت به طواقمكم، سيدي العميد، والذي أُنجز بدعم من متحف القوات المسلحة وقسم الفنون الإسلامية التابع لمتحف اللوفر، سعيًا إلى اقتفاء مسار المغامرة الإنسانية الاستثنائية المتمثلة في مسجد باريس الكبير الذي أثمر عن اعتراف الجمهورية الثالثة بالمكانة التي يحتلها المسلمون في مجتمعنا وبتضحياتهم خلال الحرب العالمية الأولى.

وأدرك تمامًا في قولي هذا أنّه من عمق الظلام ينبثق النور في كل مشهد تاريخي، ولا بد من الاعتراف أنّ المصالح الاستعمارية والدبلوماسية تداخلت في تنفيذ هذا المشروع. غير أنّ ذلك لا يغيّر حقيقة أنّه في يوم في خريف عام 1922، أكّدت أمتنا للعالم بأسره أنّه يمكن للفرد أن يكون فرنسيًا ومسلمًا في الآن معًا، وبرهنت هذا التأكيد فيما هو جلي ودائم، ألا وهو الحجر. وتجسّد المشروع بإرادة الجمهورية وبالجهود التي بذلها المؤمنون يدفعهم زخمًا وطنيًا منقطع النظير تمثل في تصويت مؤيد كاد أن يجمع عليه جميع النواب الذين تصدرهم إدوار إريو. واحتكم المعنيون حينها إلى قانون المستعمرات بغية عدم الانتقاص من قانون عام 1905 الذي يحظر على الدولة تمويل الأديان، فخصصت فرنسا قرابة 2،3 مليون فرانك لرابطة كانت مسجلة في الجزائر العاصمة، وهي جمعية الأوقاف والمقدسات الإسلامية، تمهيدًا لتشييد المسجد. واستكمل المبلغ من البلدان الإسلامية من أنحاء الإمبراطورية كافة. وعم جو من البهجة والألفة يوم اجتمع الرئيس غاستون دومرغ، وسلطان المغرب مولاي يوسف، وباي تونس سيدي محمد الحبيب، ورئيس المجلس السيد أريستيد بريان، وممثلون مدنيون وعسكريون، ووفود من مصر وبلاد فارس وتركيا وأفغانستان بغية افتتاح المسجد في صيف عام 1926.

واحتضنت العاصمة الباريسية المسجد في صميمها ونصبته على تلة في الحي اللاتيني اكتسبت مع مرور التاريخ صفة منبع الفكر، أي في هذا الثالوث الأثري والعلمي والجمهوري المتمثل في المثلث الذهبي الممتد بين الساحة الغالو رومانية ومتحف التاريخ الطبيعي ومقبرة العظماء أو البانثيون.

ورصف المبنى حرفيون من مدينة فاز المغربية ورصوه بالفسيفساء، وهو ما يضفي إليه ألوان أحجار "اللؤلؤ والروبي والتوباز" التي تصف جنة عدن في القرآن الكريم. وتتبلور الفنون الإسلامية بكل أنواعها في ظل فناء المسجد الأندلسي ومئذنته التونسية وسجاده العجمي المحكوك بالخيوط الذهبية وأسقفته الخشبية المصنوعة من الأرز الصنوبري اللبناني. ويبرز المسجد تنوّع الجالية المسلمة في فرنسا، وهي الأكبر في البلدان الغربية، والثرية بأصولها المتنوعة وتطلعاتها المتعددة واعتقاداتها الفريدة.

ويحتضن المسجد جميع أعضاء هذه الجالية للصلاة بصرف النظر عن تباين مساراتهم واختلاف معتقداتهم. ويتجاوز المسجد صفته مكانًا للعبادة، فهو يعد مكانًا تنبض فيه الحياة يمثل مركزًا ثقافيًا إسلاميًا يشمل معهدًا، ومدرسةً، ومكتبةً، وقاعة مؤتمرات، ومساحات اجتماعية، وواحة من المساحات الخضراء.

ولا أريد الاكتفاء بتكرار كلمات المشير ليوتي التي دونتموها على بعد بعض الأمتار من المكان الذي أقف فيه، وهي كلمات تعبّر عن رسالة هذا المكان وتدل بوضوح على الدين، فلا ينحصر زوار مسجد باريس الكبير في الجالية المسلمة، إذ يكثر عدد الفرنسيين الذين يعرفون المسجد ويحبونه لأنّهم زاروه من أجل الافتتان بهندسته ولأنّه أصبح مكانًا انصهر في المخيلة الفرنسية، ولا سيّما بطرق غير متوقعة.

وصور في حمامه فيلم "الطواف الكبير" (La Grande Vadrouille) الذي مثّل فيه بورفيل ولويس دو فونيس، وتناولت في مطعمه جين بيركين وسيرج غيسنبور الغداء في فيلم "شعار" (Slogan)، ويقصده سكان الحي من أجل باحته المظللة بغية تناول الشاي بالنعناع أو للقليل من الراحة والهدوء. ويدل المسجد على ما ذكرته.

ولم تنقش عبارة "أهلًا بكم يا أيها الزوار، فباب المسجد مفتوح لكم" على يمين باب المدخل فحسب، بل حفرت كذلك في روح الترحيب وحسن الضيافة التي تندرج في صميم مسجد باريس الكبير.

غير أنّ الملاذ للهدوء والطمأنينة هذا انبثق عن تاريخ عاصف، فحارب الآلاف من الجنود المسلمين من أجل فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، وفارق عشرات الآلاف منهم الحياة فيها، وأراقوا دمهم على أرض ليست أرضهم ومن أجل قضية اعتبروها قضيتهم. وكان سيتعذر الانتصار في معركة المرن التي وقعت في مرحلة مفصلية من الحرب لولا مساهمة هؤلاء الجنود المجيدين الحاسمة، وهم جنود أرغم بعضهم على المشاركة في الحرب، وأذكر منهم القناصة الذين استقدموا من السنغال، ومن مالي وكوت ديفوار وجميع أنحاء منطقة غرب أفريقيا، وكذلك الذين كانوا يعرفون بالقناصة الجزائريين، مع أنّ بعضهم كان من المغرب أو تونس، وأصبحت أسماؤهم مرادفة للولاء المطلق والشجاعة التي لا هوادة فيها. واستقدم أفراد من جميع انحاء القارة الأفريقية، وأذكر الصوماليين أيضًا، الذين تم تمثيل شراراتهم والذين قادوا المقاتلين هنا من جميع أنحاء القرن الأفريقي ومن وسط أفريقيا. ونهضت فرنسا المعاصرة جزئيًا بفضل تضحية هؤلاء المحاربين، وهو ما لا يجب أن ننساه قط. وشيّد هذا المبنى من أجل تخليد ذكراهم. ويصح القول أنّ المقيم العام في المغرب المشير ليوتي، الذي عُرف بلقب "ليوتي الأفريقي"، وظف هيبته العسكرية وثقله السياسي من أجل دعم مشروع مسجد باريس الكبير بغية تآزرًا مع رفاقه المحاربين.

ولم يكن المسلمون الفرنسيون أقل بسالةً خلال الحرب العالمية الثانية. وحمل مئات الآلاف غيرهم السلاح تحت راية العلم الفرنسي وجاهر بعضهم بذلك وحارب غيرهم في السر. ويحمل الفناء الأمامي لمسجد باريس الكبير اسم عبد القادر مسلي، الذي كان أصغر أئمة المسجد الأربعة سنًا حينها، والذي انخرط في صفوف المقاومة متحديًا الخطر ومراقبة الجيش الألماني. وأدت به بسالته البطولية إلى مصيرًا محزنًا في معسكري اعتقال نازيين. ومع أنّه عاد من معسكري الاعتقال محطمًا جسديًا، لم يفقد رغبته واندفاعه إلى عمل الخير واستأنف مهمته كإمام في هذا المسجد حتى آخر يوم في حياته.

أما أول عميد لمسجد باريس الكبير سي قدور بن غبريط، الذي يستعرض المعرض حياته المدهشة، فانخرط في صفوف المدافعين عن فرنسا بالقدر ذاته من الاندفاع والشجاعة خلال تلك الفترة وأنقذ حياة مئات اليهود. ونال ميدالية المقاومة الفرنسية في عام 1947.

ويجسّد مسجد باريس الكبير، بفضل جميع عقول هؤلاء الأشخاص المستنيرة، على غرار العميد والذين ساروا في أعقابه وتتالوا على مر السنين، انسجام الإنسان مع الأديان عندما يتقبل أنّه لا يجب أن يقيّد اعتقاد البعض قدرة البعض الآخر على ممارسة اعتقاداتهم، ولا يجب أن تحد حرية البعض في الاعتقاد من حرية الآخرين في عدم الاعتقاد.

ويتمثل ذلك ببساطة في جمهوريتنا في مفهوم العلمانية.

وتكمن في مسجد باريس الكبير إمكانية لا تنحصر في إسلام في فرنسا، وفيّ لقيم الجمهورية، بل كذلك إسلام مع فرنسا التي تدعمها، لا بل إسلام خاص بفرنسا التي تزدهر في كنفها. ويجب الحرص بصورة خاصة على أسمى القيم الجمهورية ألا وهي الأخوة التي عدها الكاتب فيكتور هوغو من الخطوات الثلاث إلى المنصة العليا.

وتضطلع الأديان بمسؤولية تذكيرنا بأهمية قيم الجمهورية في صميم حياتنا اليومية التي تسري بكل سهولة سعيًا إلى تحقيق الفعالية على حساب الضعف، وتفضيل المصلحة الذاتية على حساب التضامن. ويمكن الاقتضاء بمسجد باريس الكبير مثالًا،

إذ وزعتم في عام 2021 في أوج فترة انعدام الأمن الاجتماعي الذي نجم عن جائحة كورونا أثر في بلدنا 200 وجبة طعام يوميًا وخلال 9 أشهر لطلاب محتاجين. ويمثل هذا المبنى الديني الذي يندرج في قائمة المعالم الأثرية التاريخية مبنى مدنيًا أيضًا. أما الأذان الذي ينادي بالصلاة ويبلغ صداه سماء باريس، فهو دعوة التماس الإنسان كذلك لعدم الإذعان لإقصاء الآخر وإبعاده.

وأود أن أقول، وأنا معكم اليوم برفقة وزير الداخلية وعدد كبير من ممثلي الشعب المنتخبين والممثلين عن جميع الأديان، الذين أشكرهم على حضورهم تعبيرًا عن التزامهم المتواصل، أننا لن نسمح للأسى الذي عانى منه بلدنا من جراء الأحداث التي سجلها في الأعوام المنصرمة الأخيرة إحداث هوة وتوليد شعور بالارتياب من المسلمين.
وأكرر وسأكرر بلا هوادة أنّه لا يقف الفرنسيون في ضفة والمسلمون في ضفة أخرى، إذ يمكن أن يكون الفرد فرنسيًا ومسلمًا بانسجام ويمكن أن يرتبط الأمران ارتباطًا لا يقبل الانفصال. ولن يفضي إنكار التوافق بين فرنسا والإسلام إلا إلى تعزيز النزعات الانفصالية.
وأعرفكم تمامًا يا أيها العميد، وأعلم تمامًا أنكم تدركون بكل واقعية مواطن ضعفنا وخطر استخدام بعض الجماعات الدين سعيًا إلى محاربة جوهر الجمهورية وقيمها، وأدرك كذلك أنّنا نسعى بالقدر ذاته من العزيمة على إيجاد حل لهذه المسألة.

ونحن نتصدى للأعداء ذاتهم، ألا وهي النزعات الانفصالية التي تعمي بصيرة المؤمنين وتستدرجهم إلى دوامة تؤدي بهم من الانطواء على ذاتهم إلى انتهاج سلوك عنيف مع الآخرين. وتتستر النزعة الإسلامية المتطرفة التي لا تمثل إلا أقلية طفيفة من المنحرفين، بدينكم لإخفاء مشروع الكراهية والانقسام الذي تحمله والذي لا يمت إلى مشروعكم بصلة.
ويمكنكم لذلك أيضًا الاستعانة في هذا السبيل بقانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية، وأدرك أنّه قانون غالبًا ما نظر إليه البعض بعين الريبة. ولا أنكر أنّ البعض شوّه هذا القانون. وصيغ هذا القانون ووضع بغية مساعدة الجماعات الدينية في مكافحة التجاوزات المذهبية التي تؤثر فيها سلبًا وفي المجتمع الوطني على حد سواء. ويكمن الهدف من هذا القانون في توفير ضمانات مفيدة للجميع من خلال تدابير منطقية وفعلية.

ووضع هذا القانون كذلك للتصدي لخطر الانحدار إلى هامش الجمهورية لا بل معارضتها، ولا سيّما شبابنا وأطفالنا الأشد ضعفًا والأكثر عرضةً للتأثير.

وأود أن أشيد، في المرحلة الراهنة التي تتعرض خلالها العلمانية للخطر، ولا سيّما في مدارسنا، بشجاعة جميع الذين يدينون، وأقتبس هنا "تصرفات أطياف أقلية من الشباب الاستفزازية وغير المسؤولة" على غرار القائمين على مساجد محافظة رون، ولا سيّما عميد مسجد ليون الكبير كمال قبطان، وأنتم كذلك سيدي العميد.

وتتطلب تلبية تطلعات هذا الجيل على أفضل وجه تنظيم حوار بين الإسلام والدولة على الصعيد الوطني وعلى مستوى المحافظات. وينسجم تنفيذ ذلك مع العمل الذي استهله الوزير السابق السيد جان بيير شوفينمان ووزير الداخلية ورئيس الجمهورية بعد ذلك السابق السيد نيكولا ساركوزي الذي تجسد في إنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.

وأردنا أن نبذل مزيدًا من الجهد من أجل تدعيم مكافحتنا المشتركة لتلك المخاطر وأردنا أن نجمع النوايا الحسنة بغية إنشاء وسط يمثل الممارسات المتعددة تمثيلًا واسعًا. وسيضطلع بذلك الدور منتدى الإسلام في فرنسا الذي استُهل في شباط/فبراير الماضي بعد العمل المضني الذي أنجزه العديد من الحاضرين اليوم في هذه القاعة على نطاق كامل أراضينا بغية إحياء الوحدة الجمهورية من خلال تنوع الأديان والممارسات الدينية.

وإني متأكد يا سيدي العميد أن مسجد باريس الكبير سيؤدي دوره الكامل في ذلك المجال بتحفيزك الحكيم. ويمثل ذلك مسألة هيكلة ومسألة استقلالية الشعائر وتدريب الأئمة ويمثل كذلك مسالة تعليم وتماسك اجتماعي. وينبغي لنا أن نمد يد العون للعديد من الأطفال في بلدنا الذين يشعرون أحيانًا بأن الجمهورية قد تخلت عنهم والذين قد تنمو في داخلهم مشاعر حقد وعدائية عظيمة تجاهها. وينبغي لنا أن نقدم لهم بيئة ملائمة وأن نذكرهم بمبادئ الجمهورية وأن نفي بتعهداتنا.

وأقول مجددًا وأدرك جدية الموقف إنه ليس هناك سوى جمهورية واحدة، ألا وهي الجمهورية التي تترك للفرد حريته في الاعتقاد وفي عدم الاعتقاد، والتي تضمن فيها الدولة الحرية الدينية والتي تحمي جميع من يتعرض للمهاجمة بسبب معتقده سواء كان مسلمًا أو يهوديًا أو كاثوليكيًا أو بروتستانتيًا أو من أي دين آخر.

ولذلك، فإننا نبذل قصارى جهدنا لضمان إمكانية مسلمي فرنسا من ممارسة دينهم بسلام، بما يتوافق مع إطار العلمانية، ومن خلال حوار بنّاء بين الإسلام والدولة وبين البلدان المسلمة الأجنبية وفرنسا وخصوصًا عن تاريخها.

وتساندكم الدولة في هذا الصدد من أجل نشر المعرفة عن دينكم ودراسته واحترامه وتعزيز فهمه، بفضل مؤرخينا ومفكرينا وباحثينا وفنانينا. وسيسهم المعهد الفرنسي للدراسات الإسلامية الذي أسسناه في شباط/فبراير الماضي في إحياء ذلك المجال الذي تميزت فيه فرنسا غير أنها افتقدت في السنوات الأخيرة إلى مركز تميز جامعي. وأشيد بعمل الجامعيين الحاضرين الذين دعموا النضال من أجل تحقيق كل ما سبق في تلك الجامعة وخارجها وأسهموا في استلهام ذلك المعهد. وتحقق ذلك اليوم. وسيترأس المعهد كلوديو غالديريزي وسيتولى إدارته بيار كاي وسيجمع المعهد بضع أفضل جامعات باريس وستراسبورغ وأكس ومارسيليا من أجل تطوير برامج التدريب والبحث والنهوض بها إلى أعلى مستوى من أجل الطلاب والجامعيين في الوقت الراهن ومن أجل الأئمة في المستقبل وجميع أولئك الذين يريدون تلقي تلك التدريبات.

وكذلك، سيفضي ذلك العمل الذي سينفذ بالشراكة مع جميع الجامعات الراغبة بالمشاركة ومن دون المساس باستقلاليتها، إلى تطوير وتمويل الأطروحات البحثية والتأهيل من أجل إدارة الأشغال وإنشاء فرص عمل للمعلمين وكرسي الاستاذية وسيتيح كذلك للمعارف والبحوث أن تهيكل على نحوٍ أفضل على أراضينا.

ويمكنكم الاعتماد أيضًا على إشعاع جاركم العظيم الذي يبعد بضع خطوات من هنا، ألا وهو معهد العالم العربي. وأسس ذلك المعهد بتحفيز من فاليري جيسكار ديستان وبتأييد من فرانسوا ميتران ويترأسه اليوم جاك لانغ. والمعهد عبارة عن بؤرة تنضح بالثقافة بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إنه افتتح فرعًا في توركوان عام 2016. ولا يمكن اتهام الوزير بالتدخل نظرًا إلى أنه لم يكن مكلفًا في حينها.

وأسست جمعية الإسلام في فرنسا في العام نفسه بمبادرة جان بيار شيفيمان وزخمه من أجل الإصرار والتأكيد على إنسانية الإسلام والمساعدة على التعرف إليه وتطوير العلمانية وتقديم منح مخصصة للتدريب إلى الذين سيتكلمون باسم الدين وذلك بالنشاط الحازم والحيوي الذي اضطلع به رئيس الجمعية، غالب بن شيخ.

أما في قلب حي لا غوت دور، الذي يبعد قليلًا عن هذا المكان، وبهذا الصدد أشمل بحديثي مختلف معاهدنا في العاصمة، رغب برتران دولانوي في موطن آخر للحوار والتعلم فأسس معهد الثقافات الإسلامية ليصبح مكانًا للعبادة والمعارض والعروض والموسيقى، وأنتم تعرفوه جيدًا لأنه يضم قاعة صلاة يديرها مسجد باريس الكبير وتمثل صورة مصغرّة عنه. ونهضت رئيسة المعهد بارزة خياري بمعية طاقمها الكامل وأوصلته إلى المواقع البارزة التي أتاحت للفرنسيين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أن يفهموا الإسلام وأن نوطد علاقاتنا.

وأود أن أقول بهذا الصدد وعلى سبيل التذكير بالعمل الذي اضطلعنا به جميعنا في السنوات الفائتة، إنّ المبادرات واللقاءات والفعاليات قائمة على قدم وساق وإنها ترمي إلى التذكير بضرورة ذلك العمل الذي ينطوي على المعرفة والاحترام وحتى العاطفة. ويؤدي مسجد باريس الكبير دورًا في ذلك إذ إنه يعج بالمبادرات واللقاءات.

وأسستم، على سبيل المثال، ملتقى الحوار المعروف بأربعاء المعرفة، في عام 2020 ودعوتم مونسنيور تيسيه إليه، الذي كان أسقفًا في الجزائر العاصمة آنذاك. وتشرف هذه الدعوة عادة الحوار بين الديانات التي تتبنوها والتي أعطاها حمزة بوبكر زخمًا قويًا في عام 1967 من خلال مشاركته في تأسيس أخوة ابراهيم، التي بصرت النور هنا بالتحديد بهدف نسج علاقات صداقة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين وتوحيدهم تحت جناح البطريرك الكبير، أي السلف المشترك للكتب المقدسة.

واستهلت في مطلع هذا العام الدراسي جائزة مسجد باريس الكبير للأدب التي تجمع حول طاولة واحدة لجنات تحكيم متنوعة مثل الأكاديمية هيلين كارير دونكوس والصحفي جان بيار الكباش والفيلسوف سليمان بشير ديان من أجل منح جائزة أفضل رواية أو أفضل مقالة تتناول موضوع الحضارة الإسلامية.

وتمثل أهمية الروابط التي تجمعنا وكل العمل الذي اضطلعنا به سويًا جُلّ ما أردت التذكير به حاليًا، في الساعة الراهنة أثناء الذكرى المئوية لمسجد باريس الكبير. ولكنّي أريد أيضًا أن أذكر، خلال الأوقات الصعبة التي نعيشها نحن والجمهورية والقارة وحتى كوكب الأرض، بشجاعة أسلافنا بأنه قبل 100 عام، عندما وضع الحجر الأول لهذا المكان، لم يكن أي شيء واضحًا ولا حتى سهلًا. وأريد التذكير بأن للعديد من بيننا، ليس من السهل الحفاظ على النهج الذي تحدثت عنه بوجه الهجمات العنيفة والطرق المختصرة والخطابات التي تحث على الكراهية والمواقف الحاسمة.

ويمثل هذا الخطاب دعوة إلى الاحترام وإلى ما هو ملحّ وإلى الأخوة والعلمانية. ولا تنسوا أنه يتعيّن على كل منكم تأدية دوره الهام. وذلك ربما لأن الصعوبات لا تزال أكبر بكثير، والتشرذم أكثر حدة والعمل الذي يتعين علينا الاضطلاع به ضخمًا بالرغم من كل ما بُذل من جهود منذ 100 عام وما أتاح لنا أن نجتمع هنا.

وسنقوم بذلك بلا سذاجة وبلا أي نوع من التساهل وبصفة ملحة وبما يحترم تاريخنا وقيمنا ومبادئنا وجمهوريتنا بمكوناتها ومبادئها كافة.